كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}..
يالله! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم..
هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً. ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!
ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:
{قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}.
فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه!
والأمر شاق ما في ذلك شك فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه.. وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه.
وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى..
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:
{قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}..
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين..
{يا أبت}.. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.
{افعل ما تؤمر}.. فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه. يحس أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة:
{ستجدني إن شاء الله من الصابرين}..
ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً.. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}..
يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان. ويالنبل الطاعة. ويالعظمة التسليم!
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام.. يخطو إلى التنفيذ:
{فلما أسلما وتله للجبين}..
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان.. إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً.
لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ.. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.. وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما..
كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا:
{وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم}..
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت يا إبراهيم قد فعلت. جدت بكل شيء. وبأعز شيء. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل!
وقيل له: {إنا كذلك نجزي المحسنين}.. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام.
واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها..
{وتركنا عليه في الآخرين}..
فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين.
{سلام على إبراهيم}..
سلام عليه من ربه. سلام يسجل في كتابه الباقي. ويرقم في طوايا الوجود الكبير.
{كذلك نجزي المحسنين}..
كذلك نجزيهم بالبلاء.. والوفاء. والذكر. والسلام. والتكريم.
{إنه من عبادنا المؤمنين}..
وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين.
ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شيخوخته. ويباركه ويبارك إسحاق. ويجعل إسحاق نبياً من الصالحين:
{وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق}..
وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد:
{ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}..
ومن ذريتهما موسى وهارون:
{ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين}..
وهذه اللمحة من قصة موسى وهارون تعنى بإبراز منة الله عليهما باختيارهما واصطفائهما. وبنجاتهما وقومهما {من الكرب العظيم} الذي تفصله القصة في السور الأخرى. وبالنصر والغلبة على جلاديهم من فرعون وملئه. وبإعطائهما الكتاب الواضح المستبين. وهدايتهما إلى الصراط المستقيم. صراط الله الذي يهدي إليه المؤمنين. وبإبقاء ذكرهما في الأجيال الآتية والقرون الأخيرة. وتنتهي هذه اللمحة بالسلام من الله على موسى وهارون. والتعقيب المتكرر في السورة نوع الجزاء الذي يلقاه المحسنون، وقيمة الإيمان الذي يكرم من أجله المؤمنون..
وتعقب تلك اللمحة لمحة مثلها عن إلياس، والأرجح أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء. وقد أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنماً يسمونه بعلاً. وما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة.
{وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلاً وتذورن أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إلياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين}..
ولقد دعا إلياس قومه إلى التوحيد، مستنكراً عبادتهم لبعل، وتركهم {أحسن الخالقين} ربهم ورب آبائهم الأولين. كما استنكر إبراهيم عبادة أبيه وقومه للأصنام. وكما استنكر كل رسول عبادة قومه الوثنيين.
وكانت العاقبة هي التكذيب. والله سبحانه يقسم ويؤكد أنهم سيحضرون مكرهين ليلقوا جزاء المكذبين.
إلا من آمن منهم واستخلصه الله من عباده فيهم.
وتختم اللمحة القصيرة عن إلياس تلك الخاتمة المكررة المقصودة في السورة، لتكريم رسل الله بالسلام عليهم من قبله. ولبيان جزاء المحسنين. وقيمة إيمان المؤمنين.
وسيرة إلياس ترد هنا لأول مرة في مثل تلك اللمحة القصيرة. ونقف لنلم بالناحية الفنية في الآية: {سلام على إلياسين} فقد روعيت الفاصلة وإيقاعها الموسيقي في إرجاع اسم إلياس بصيغة {إلياسين} على طريقة القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير.
ثم تأتي لمحة عن قصة لوط. التي ترد في المواضع الأخرى تالية لقصة إبراهيم:
{وإن لوطاً لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}..
وهي أشبه باللمحة التي جاءت عن قصة نوح. فهي تشير إلى رسالة لوط ونجاته مع أهله إلا امرأته. وتدمير المكذبين الضالين. وتنتهي بلمسة لقلوب العرب الذين يمرون على دار قوم لوط في الصباح والمساء ولا تستيقظ قلوبهم ولا تستمع لحديث الديار الخاوية. ولا تخاف عاقبة كعاقبتها الحزينة!
وتختم هذه اللمحات بلمحة عن يونس صاحب الحوت:
{وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مُليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين}..
ولا يذكر القرآن أين كان قوم يونس. ولكن المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر. وتذكر الروايات أن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه. فأنذرهم بعذاب قريب. وغادرهم مغضباً آبقاً. فقاده الغضب إلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة. وفي وسط اللجة ناوأتها الرياح والأمواج. وكان هذا إيذاناً عند القوم بأن من بين الركاب راكباً مغضوباً عليه لأنه ارتكب خطيئة. وأنه لابد أن يلقى في الماء لتنجو السفينة من الغرق. فاقترعوا على من يلقونه من السفينة. فخرج سهم يونس وكان معروفاً عندهم بالصلاح. ولكن سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر. أو ألقى هو نفسه. فالتقمه الحوت وهو {مُلِيم} أي مستحق للوم، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً قبل أن يأذن الله له. وعندما أحس بالضيق في بطن الحوت سبح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين. وقال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فسمع الله دعاءه واستجاب له. فلفظه الحوت. {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}. وقد خرج من بطن الحوت سقيماً عارياً على الشاطئ. {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين}. وهو القرع. يظلله بورقه العريض ويمنع عنه الذباب الذي يقال إنه لا يقرب هذه الشجرة.